اتجه كثيرون إلى وصف حادثة "شارلي إيبدو" بأنها 11 سبتمبر في نسختها الفرنسية. وعلى الرغم مما قد تتسم به هذه المقولة من مبالغة، فإنه يمكن الدفع بمصداقيتها فيما يخص عظم التأثيرات والتداعيات التي من المتوقع أن تترتب عليها، ليس فقط على مستوى فرنسا وأوروبا بل عبر العديد من مناطق ودول العالم؛ وهو ما يطرح تساؤلاً حول التأثيرات المحتملة لتلك الحادثة على استراتيجية منظمة حلف شمال الأطلنطي (الناتو) في التعامل مع التهديدات والمتغيرات المستقبلية، لاسيما أن عمل الحلف وآلياته كان محلاً للمراجعة وإعادة التقييم في الفترة الماضية.
الحاجة للمراجعة وإعادة النظر
يبدو أن أداء الناتو لم يحظ بقدر كبير من رضاء المعنيين بشؤون الأمن والدفاع في العالم الغربي، إذ برزت مؤخراً العديد من الانتقادات التي تذهب باتجاه التأكيد أن استراتيجيات الحلف أخفقت في الوفاء بالأهداف الرئيسة من وجوده.
وفي تفصيل هذه الانتقادات تبرز النقاط التالية:
1 ـ الاعتقاد بأن "الدفاع الجماعي"، وهو المهمة الأساسية لحلف الناتو، لم يعد سبباً مقنعاً للحفاظ على تماسك بنيان التحالف، وهو ما أدى لبروز دعوات ليقوم الحلف بتوسيع عضويته أو إلغاء الحلف بشكل كامل. بيد أن البعض يرى أن هناك من التهديدات ما يمس العالم الغربي بشكل خاص، مما يؤكد على استمرار الحاجة الماسة لاستخدام أساليب الردع والدفاع في أوروبا.
2 ـ افتراض أن روسيا أصبحت قوة مسالمة ولم تعد تهديدات موسكو محل قلق للحلف، ويرتبط ذلك بافتراض أن توسيع الحلف لن يثير رد فعل روسيا، باعتبار ذلك أمراً مسالماً؛ وهو ما يرى المراقبون أنه يحتاج مراجعة لأن روسيا تعمل على إعادة ترسيم الخريطة الدولية، كما أنها لم تر أن توسع الناتو شرقاً أمراً طبيعياً.
3 ـ التركيز على الرؤى الأمريكية بشكل يفوق الأولويات الأوروبية، إذ خرجت التصورات التي تطالب حلف الناتو بالتركيز على الملفات ذات الأهمية للشركاء الأوروبيين في الحلف مثل العمل على حماية جنوب أوروبا، وتقليم أظافر الجماعات المسلحة المتطرفة في ليبيا، مع تجاهل أولوية واشنطن في التركيز على العراق وسوريا.
التهديدات الحالية للحلف
يواجه الناتو في اللحظة الحالية عدداً من التحديات التي تشكل تهديداً لدول الحلف بشكل مباشر أو غير مباشر. بعض هذه التحديات جديد وبعضها قديم متجدد. ولعل أبرز ما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق هو العامل الروسي؛ فلايزال المراقبون يرون أن روسيا "بوتين" هي العدو التقليدي للناتو، وأن سياساتها تحمل تهديدات عدة لأمن دول الحلف.
وفي اللحظة الحالية تتبلور التهديدات الروسية المباشرة للناتو ودوله في ملامح عدة، من أبرزها الأبعاد الأمنية المباشرة، والتي تم التعبير عنها من خلال إقرار الصيغة المعدلة لوثيقة العقيدة العسكرية الروسية، والتي تأخذ في عين الاعتبار حشد القدرات الهجومية للناتو قرب حدود روسيا، وخطوات الحلف الهادفة إلى نشر منظومة الدرع الصاروخية العالمية.
وفي الإطار ذاته يأتي اتفاق التحالف والشراكة الاستراتيجية الموقع بين إقليم أبخازيا الجورجي وروسيا في نوفمبر الماضي، والتي تعتبر وثيقة أساسية، من شأنها إقامة التعاون الأوثق بين روسيا وأبخازيا في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن السياسة الخارجية والأمن والدفاع. ويضاف إلى ذلك تحركات روسيا تجاه أوكرانيا، والتي تهدف - وفق أكثر المحللين تفاؤلاً - إلى وقف عضوية أوكرانيا في الناتو؛ لأن هذا يعني اقتراب الناتو من الحدود الروسية.
وإلى جانب الأبعاد والعوامل الاقتصادية التي تبلورت مؤخراً مع توقيع الرئيس بوتين اتفاقيات مالية وتجارية هائلة تؤمن علاقات متينة بين روسيا والصين لمدة ثلاثين سنة قادمة، ثمة ما يثار كذلك عن دور روسيا في الدفع باتجاه خفض أسعار النفط، فوفقاً للخبراء الروس ليس بوسع واشنطن تحمل انخفاض سعر النفط إلى مستوى 60 دولاراً للبرميل لأكثر من ستة أشهر.
على صعيد متصل، يشكل العامل الروسي تحديات أخرى للناتو فيما يخص تماسك تركيبته، لاسيما أنه تسبب في إيجاد مشكلة كبيرة داخل الحلف نفسه حين جعل أحد أعضائه يأخذ مسافة بعيدة منه، ويقصد بذلك تركيا التي صارت حليفاً اقتصادياً لموسكو بعد عقد اتفاقيات اقتصادية ضخمة بين الجانبين في خطوة يحذر المراقبون من أن لها وقع كبير في زعزعة توازن الناتو.
ويزيد من تعقيد الأمور وجود خلافات بين الدول الشريكة في الناتو حول السياسة تجاه موسكو، فالبولنديون ودول البلطيق حريصون على سياسة أكثر عداء وصرامة تجاه روسيا، وذلك على النقيض من الدول الأخرى في وسط وغرب أوروبا غير المعنية كثيراً بالتهديد الروسي، والتي تدرك جيداً أنه لا يمكن بناء أمن أوروبا الشرقية على حساب شعور روسيا بعدم الأمن.
وبعيداً عن روسيا، ثمة مجموعة من التهديدات لدول الحلف وداخله، ويقصد بذلك تحديداً ملفا الإرهاب والهجرة غير القانونية لدول الحلف الأوروبية.
وعلى الرغم من أن هاتين القضيتين ليستا بالأمر الجديد، فإن المخاطر النابعة من خلفهما تزايدت بسبب حالة عدم الاستقرار التي تشهدها المنطقة العربية، والتي أسفرت عن تزايد أعداد المهاجرين منها إلى دول أوروبا خلال السنوات المنصرمة، وهو ما حمل تهديدات اجتماعية واقتصادية ترتبط بالنقل التدريجي للأفكار والمعتقدات من دول الجنوب إلى نظيرتها في شمال المتوسط، في ظل تعارض القيم بين الجانبين. ويؤدي تدني المستوي التعليمي لهؤلاء المهاجرين إلى قبولهم وأصحاب الأعمال لوظائف رخيصة، وهو ما يمثل ضغوطاً على فرص العمل في الدول المضيفة.
وزاد من وطأة ذلك تصاعد المخاوف الأمنية مع انضمام مئات المتطرفين الأوروبيين (من المسلمين المهاجرين أو المتأثرين بهم) إلى تنظيم "داعش" للقتال في سوريا والعراق؛ الأمر الذي يعتبره كثيرون فشلاً ذريعاً لسياسات دمج المهاجرين داخل الدول والمجتمعات الأوروبية، بعد أن تم عزلهم بدوائر خاصة عانت في الغالب الفقر والتهميش، الأمر الذي ساعد على ظهور الميل للتطرف والاستعداد للقيام بأعمال إرهابية.
ولعل هذا ما تجلى مع الأحداث الأمنية التي تشهدها العاصمة الفرنسية باريس منذ (7 يناير 2015) مع الهجوم على مبنى صحيفة "شارلي إيبدو"، وما أعقبها من سلسلة هجمات متفرقة أوقعت العديد من الضحايا.
الملامح المتوقعة لاستراتيجيات الحلف
يمكن القول إن الملامح الرئيسة لاستراتيجية حلف الناتو في المستقبل القريب قد تم ترسيمها خلال قمة الحلف التي تم عقدها في ويلز في سبتمبر الماضي 2014، والتي أعادت التأكيد على مبادئ الحلف كحلف جماعي، مع تأكيد الطابع العسكري للحلف وقدرته واستعداده للقيام بأعمال ذات طابع عسكري خارج حدوده، وهذا ما تبلور مع تبني خطة العمل الجاهزي، إذ تم تصعيد "قوة رد الناتو"، بتشكيل "حزم" من الوحدات البرية والجوية والبحرية، قادرة على التموضع بسرعة في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وآسيا الوسطى وأفريقيا ومناطق أخرى.
وكان أعضاء الحلف قد وافقوا على إقامة قوة مهام مشتركة عالية الجاهزية يصل قوامها إلى 3500 جندي تكون قادرة على الاستجابة للوضع في بضعة أيام، مع تجهيز البنية التحتية وتعيين القواعد وتمركز المعدات والإمدادات للقوات التي ستنقل إلى منطقة الحدود الشرقية للحلف في المستقبل.
من ناحية أخرى، شهدت القمة توسيع مفهوم الأمن الذي يتبناه الحلف بتضمينه الأبعاد التكنولوجية، فقد اتفقت الدول الأعضاء على أن وقوع هجوم إلكتروني واسع النطاق على دولة عضو يمكن اعتباره هجوماً على الحلف بالكامل، ويمكن أن يؤدي إلى رد عسكري.
أما فيما يتعلق بالتعامل مع التهديدات المرتبطة بالإرهاب، والتي تأتي أحداث "شارلي إيبدو" كاشفة لها، فيمكن القول إن استراتيجية الناتو في هذا السياق تقوم على القناعة بأن دول الحلف لا يمكنها أن تقوم منفردة بمكافحة الإرهاب، وأن عليها التعاون مع الأطراف الأخرى ذات الصلة، لاسيما الدول الإسلامية التي تعاني من هذه المشكلة.
وقد ظهر ذلك على سبي المثال في تصريحات الأمين العام للناتو، ينس شتولتنبرج، في معرض تعليقه على الحادثة، والتي أكد خلالها أن المسلمين هم أكثر المتضررين من الإرهاب، وغالبية المسلمين ينددون بالإرهاب ..وعلينا أن نكافح الإرهاب معاً" وهذا ما أكده أيضاً الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند حينما ذكر أن بلاده لا تستطيع العمل وحدها على مكافحة الإرهاب.
بيد أن الدلالة الأهم في هذا السياق جاءت مع الخطاب الذي ألقاه هولاند أمام القوات المسلحة من على متن حاملة الطائرات شارل ديجول، وهو ما يؤشر إلى الطبيعة القاسية للاستجابة الفرنسية/الأطلسية على هذه الأحداث، وهذا ما تجلى أيضاً في تصريحات الرئيس الفرنسي بأن إرسال هذه الحاملة إلى الشرق الأوسط يشكل رداً على الإرهابيين، وأنه ينبغي استخدام الوسائل العسكرية المناسبة لمواجهة هذه التحديات.
في هذا السياق يتوقع البعض أن تشهد الفترة المقبلة مراجعة الحلف لاستراتيجيات حضوره على مستوى منطقة الخليج التي تعد منطقة تماس رئيسية للبؤر التي ينتقل منها الإرهاب إلى المحيط الأطلسي، لاسيما أن نهايات العام الماضي قد شهدت مراجعة الأطراف المعنية لمبادرة إسطنبول للتعاون الاستراتيجي التي أطلقها الحلف عام 2004 وانضمت إليها كل من البحرين وقطر والكويت والإمارات بغرض التعاون الأمني، لأن السياق الراهن يشهد مستجدات كثيرة تختلف بشكل جذري عن ذلك الذي أُطلِقَت فيه المبادرة قبل نحو 10 سنوات، الأمر الذي ربما يدفع الحلف إلى تعديل بعض بنودها وأهدافها وآليات عملها خصوصاً فيما يخص ضرورة تعديل مسألة مواجهة الإرهاب ليركز بشكل أكثر تحديداً على الجماعات من دون الدول. كما تبرز توقعات بأن يبذل الحلف جهداً أكبر في مجال بناء الأجهزة الأمنية في المنطقة.
ومع ذلك ثمة من يرى أنه من غير المتوقع أن يلعب حلف الناتو دوراً جديداً وأكثر وضوحاً في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج في المستقبل المنظور لعدة اعتبارات؛ أبرزها أن الحلف لا يمتلك استراتيجية واضحة للعمل، فضلاً عن التباين في الرؤى الاستراتيجية بين الدول الأعضاء، إذ ما يزال الإجماع حول الدور الذي يجب أن يضطلع به الحلف غائباً، بل وثمة خلاف كذلك حول أولويات التهديدات التي يجب مواجهتها. ومن ناحية ثالثة، يوجد تباين بين صانعي القرار في المنطقة حول حدود الدور المسموح به للناتو في أمن المنطقة؛ لاسيما مع استمرار وجود المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان خارج إطار مبادرة إسطنبول.